ما بعد الحداثة

Publié le par memoire

عرفت المسلمات الفكرية التي نشأت عليها الحداثة كثيرا من النقد.فصار الحديث في أدبيات ما بعد الحداثة عن التشتت مقابل الوحدة وعن التعدد مقابل الهوية وعن اللامركز مقابل المركز، وعن السطح مقابل العمق وعن المحلية مقابل الكونية وعن الأقلية مقابل الكلية.

كان رهان الفكر ما بعد الحداثي يحمل في مشروعه رؤية تستهدف تحقيق الوحدة بين الحياة الفكرية والاجتماعية من أجل تجاوز التنافر بين الاتجاهات الفكرية والعلمية التي أنتجتها الحداثة. وهنا كانت النزعة ما بعد الحداثة قائمة كما يشير ليوطار على عنصري التحديد والشمولية.فالهدف من هذه النزعة لا يهدف إلى مجرد إحداث القطيعة مع الماضي وتفكيكه وإنما الهدف هو تطوير الأنظمة القائمة وتغذيتها بعناصر جديدة فعالة في ميدان الإبداع والتجديد عبر تجاوز الازدواجيات والثنائيات في الفكر والايدولوجيا من أجل كسر الانغلاق الإيديولوجي والتعصب الفكري

وتذكر رشيدة نريكي[i] أن النقد الذي وجه للحداثة ومفارقاتها هو مصدر ما اتفق على تسميته اليوم ما بعد الحداثة. إنها تتعلق بثلاثة أقطاب أساسية اعتبرت كتطور منطقي لأفكار الحداثة ،إنها تنتقد فكرة التقدم التي تطورت إلى هيمنة عقلانية وهي تحطم أيضا سيادة الذات الفاعلة ثم فكرة استقلال فضاءات المعرفة. ومهما يكن فإن ما بعد الحداثة تجد دلالاتها في سياق التحولات التي عرفها المجتمع الغربي ،أي في إطار العلاقة الكامنة بين الفكر الغربي وقضاياه المختلفة في المجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة. فالملاحظ أن النقد الذي وجهت به ما بعد الحداثة كان رفضا للظاهرة في أسسها على الرغم من أن هذه الظاهرة قد رسخت جذورها في الثقافة العربية وتجلت في الاهتمام المتزايد برموزها وأفكارها وأصبح لرهانها صلة بما تحققه في المستقبل من زمن حضاري جديد.

 

 

إن ما بعد الحداثة تبحث بطرق ووسائل عقلانية وأخرى غير عقلانية عن أفاق جديدة مألوفة وغير مألوفة لإظهار معاناة الإنسان وهمومه، وهي بذلك لست خصما عنيدا للعقلانية كما أنها ليست (نزعة غير عقلانية أو تيار فكري مضاد للعقل على ما رأى إليها (هبرماس) ذلك أن نقد العقلانية كما مارسه مفكرو ما بعد الحداثة لا يعني نفي العقل بقدر ما يعني توسيع إمكانياته بالحفر في المناطق المستبعدة أو المرذولة من النشاط العقلي أو باستنباط صعد جديدة لعمل الفكر واستتباب المفاهيم).[ii]

2-2 :جماليات ما بعد الحداثة

أفرز فكر ما بعد الحداثة جملة من الملامح الجمالية والفنية والتي يمكن أدركها بصورة جلية في الفنون البصرية والأعمال الأدبية كالمفارقة والتعددية في الأشكال والمنظورات والتفتيت والتشتت والتشظي في الأساليب والدلالات والغموض والتعمية.تشكل هذه الملامح الفنية انزياحا عن المعايير والقواعد الفنية التي عرفتها جماليات الحداثة.وبهذا صار الأعمال الفنية مشاريع مفتوحة على طاقة المغامرة الفنية والتجريب.والواقع أن هذه الأساليب الفنية ليست وليدة قترة ما بعد الحداثة فهي تجد صدى لتطبيقاتها المختلفة في كثير من الاتجاهات والمذاهب الفنية التي عرفتها الحداثة في الددائية والسرياية التي تميزت اتجاهاتها بالتعمية والغموض والاعتماد على اللعب الفني والأداء الفردي والتشظي والتفتت. و هي الخصائص نفسها التي عمل فكر ما بعد الحداثة على تأكيدها كخصائص تفتح الحقيقة الفنية على التعدد والاختلاف.

وبعيدا عن فكرة التماثل والتطابق عمدت جماليات الحداثة على فتح العمل الفني على الاختلاف والتشطي وكذلك التفكيك الذي رسم ملامح ما بعد الحداثة، وهو مقولة تسمح بفتح العمل على تعدية التأويلات، فالأدلة الفنية هي إمكانية خاضعة للإرجاء ،مما يفتح العمل على فاعلية القراءة والإمكانيات المتعددة للتأويلات. فإذا كان من الممكن أن نجد الاختلافات واضحة بين الفنون ما بعد الحداثية على أكثر من مستوى، فإن هذه الفنون تتفق في المبدأ العام المتمثل في الغيرية وهو مبدأ قائم علة عنصر التشظي والمزج والتعدد والتهجين ومناقض لمبدأ النقاء المميز لعلم الجمال الحداثي[iii]

إن الفكر الإبداعي لما بعد الحداثة لا يحمل قيما عقلية بل هو فوضوي في قيمته ،فالعمل الفني يقوم على المسارات غير المنظمة وعلى السياقات المربكة. ومن ثم فإن جماليات ما بعد الحداثة لا تستمد دلالتها من العناصر التنظيمية للنسق ومن المحتوى العقلي لهذا التنظيم ،وإنما هي تتشكل وفق معطيات متشظية لامركز لها، أي وفق صور وأشكال مفككة ومنشظية. ومن هنا تكون التفكيكية قد أرست ملامح خاصة على جماليات ما بعد الحداثة منها الحركة والسرعة والتلقائية والتشتت والاختلاف والتمرد والعبث ثم الانفتاح على الهامش بدل المركز، أي وفق صور وأشكال مفككة ومتشظية. ولعل من الملامح والمميزات التي تشترك فيها ثقافة ما بعد الحداثة في حقولها المتعددة هو ردة الفعل الحادة تجاه الحداثة بحيث تسعى ثقافة ما بعد الحداثة إلى ترسيخ وجودها عبر تحطيم ونقض الثقافة الحداثية، فإذا كانت الحداثة أمعنت في تشويه وإدانة الثقافة الجماهرية من خلال تقديمها على أنها شيء بعيد عن الحضارة، فإن ما بعد الحداثة لا تريد فقط أن تتحرر من التحديد التراتبي لأمور الثقافة حيث الثقافة العليا والثقافة الشعبية ولكن تمنح الأفضلية إلى تعدد أشكال التعبير الثقافي، كما أنها تلغي دور العقل الذي ترى فيه أنه ينزع عن العالم إنسانيته وتتصدى إلى العلم الوضعي الذي شكل أحد طموحات الحداثة، إذ هي لا تدَخر جهدا في تحويل مشروع المعرفة إلى مشروع رمزي، لغوي، استعاري، غير تنظيري أي باختصار إلى مجرد عمل سردي. [iv]

 

 

[i] رشيذة التريكي. الجماليات وسؤال المعنى.تر وتقديم إبراهيم العمير دار النشر المتوسطية .تونس بيروت ط1-2009.ص89 وما بعدها

 

[ii] .على حرب الحداثة وما بعد الحداثة: قلب السؤال وتغيير مفهوم المكان.البحرين الثقافية عدد23 يناير2000.ص87.

[iii] .voir. Marc Gontard, Le roman français postmoderne- une écriture turbulente, http://halshs.ccsd.cnrs.fr, 2005

 

[iv] .رمضان جودت زيادة. صدى الحداثة/ ما بعد الحداثة في زمنها. المركز الثقافي العربي، ط1، 2003،ص92

ما بعد الحداثة
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article